ظلت الحرب القبلية في البلاد، غربا وشرقا،تتجدد من حين لاخر،وخاصة في الجنينة بولاية غرب دار فور والتي يدور رحاها هذه الايام،ويأتي السؤال الملح الى أين يسير هذا الاحتراب القبلي؟فظل القتال القبلي متفشيا عبر تاريخ السودان القديم والحديث،لكنه بات يتداعي مؤخرا بصورة بشعة ومخيفة دون وازع او خشية من قانون او عرف فعلى الدولة ان تتحسس هيبتها بل ومسدسها لحفظ هذه الدماء،وهذا يعزى الى عدم الوعي بحرمة دم الانسان وهذا سيؤدي حتما الى ضعف التماسك المجتمعي وبالتالي الى عدم الامن والاستقرار،والغريب في الامر ان اثارة النعرات القبلية والعرقية اضحت حاضرة وبقوة كظاهرة رجعية ارتدادية في المجتمع السوداني وتدخل بكل فظاظة في تغيير موازين القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذا ما صدع النسيج الاجتماعي واضعف الوحدة الوطنية كثيرا،وسيقضي على الارادة القومية المتمثلة في وحدة المشاعر والهدف والمصير المشترك بين المكونات الاجتماعية،وبالتالي ضعف الولاء الوطني الذي باتت تتنازعه الرياح الاقليمية والدولية العاتية والتي بدات تنزع خيوط اللعبة من يده ليجيء التخبط في ضبابية تفقد من خلالها الرؤية بصرا وبصيرة.
من الملاحظ ان الحرب العرقية تكمن في اطراف البلاد،شرقا كما حدث في بورتسودان وكسلا وحلفا،وغربا كما حدث من قبل ويحدث الان في الجنينة وسبقه في جنوب وشمال وشرق دارفور وجنوب كردفان،وهناك اسباب تاريخية قديمة لكنها متجددة بسبب المسارات والنزاع بين القبائل الرعوية والزراعية والنهابة،الا تفشي الحرب بينهم وبصورة متسارعة ومنظمة يدل على عدم وجود رقيب او حسيب من قريب او من جديد،فلا يعقل ان يستمر القتال بمدينة الجنينة ثلاثة ايام بلياليها ولا تستطيع الشرطة او القوات النظامية الاخرى والنيابة السيطرة عليها وفي ظل حملة جمع السلاح وحملة شرح اتفاقية جوبا للسلام من قبل الحركات التي وقعت عليه،وهذا قد حدث في العام الماضي في معسكر كرنديق بالجنينية ومن قبل بقرية ملي جنوبها،فواضح ان الحرب القبلية تحدث في مناطق نائية تغيب فيها هيبة الدولة والرقابة القانونية ،او في مناطق تعاني تاريخيا من عدم وجود تنمية وخدمات على راسها التعليم الذي يمثل مفتاح الحياة المتزنة بالمعرفة والوعي الثقافي والديني،والا يسود منطق(…وما انا الا من غزية ان غزت غزوت…) ،والغريب في هذه الحرب القبلية انها تنشأ بين اثنيات بينها تحالف تاريخي مثلا النوبة والحوازمة، والبنى عامر والهدندوة والحباب لديهم مواثيق وعهود سابقة او في اضعف الحالات لديهم قلد تاريخي،والاغرب من ذلك هنالك حرب دارت بين الزغاوة والحلفاويين في حلفا وهما ظلا ولفترة طويلة متعايشين في سلام وامان،والشيء المحير ان هذه الحروب تنداح على مر التاريخ في اجواء سلام رسمي كما يحدث الان،وهذه المرة في ظل ما عرف بسلام السودان ذي المسارات التي تشمل مناطق هذه النزاعات والحروب القبلية في الشرق والغرب،والمسارات هذه اهتمت باصحاب المصلحة والتي من ضمنهم هذه القبائل المتقاتلة خاصة في دارفور مثل حرب المساليت والرزيقات المتجددة دوما في كل موسم في غرب دارفور ،والفلاتة ضد السلامات،والسلامات ضد التعايشة في جنوب دارفور،والبرتي والزيادية في شمال دارفور،والفور ورزيقات الشمال في وسط وجنوب دارفور،وبين القبائل العربية متحدة واتحاد القبائل غير العربية،وهكذا…وتعتبر هذه الحروب القبلية والعبثية من اخطر مهددات السلام والسلم المجتمعي،هذا فضلا من كونها تشكل اكبر مهدد للاقتصاد بتهديد الانتاج الزراعي بشقية النباتي والحيواني،فلا بد من اشاعة الوعي في المجتمع بخطورة مثل هذه الحروب وعصبية القبيلة التي تعشعش في ادمغة القبائل والاثنيات، (فمن ذاكرتي ومذكراتي) عندما اندلعت الحرب بين مكونين من مكونات غرب دارفور تحديدا في قرية ملي ١٦كلم جنوب الجنينة في العام ٢٠١٦م انتقلت هذه الحرب بين المكونين الى داخل مدينة الجنينة والتي تسكنها قواعد المتنازعين،فكنا مكلفين انا وزميلي ازهري ابراهيم عبدالوهاب من قبل الاذاعة السودانية امدرمان بتغطية عودة الهدوء والاستقرار الى المنطقةبعد ان وضعت الحرب اوزارها الا اننا اجبرنا من بعض اطراف النزاع بتسجيل خطاب يجدد ويعبيء اندلاع الحرب مرة اخرى،فما كان منا الا ان سجلنا هذا الخطاب غير المتصالح من داخل مدينة الجنينة وليس قرية ملي المتنازع فيها وعليها موقع الاحداث،فاطلقنا خطاب الكراهية تزروه الرياح وعدنا ادراجنا الى سوق الرملة بخفي حنين فكان ذلك في شتاء السادس عشر من يناير من العام ٢٠١٦م .ثم لجأنا من بعد الى سهرة ثقافية (سهرة من الولايات) لمعالجة مثل هذا التطرف وعصبية القبيلة،فكان الحديث مغايرا جدا حيث الخطاب التصالحي وقبول الاخر من الطبقة المثقفة من داخل المدينة لجيء السؤال كيف تحدث هذه النزاعات ومالك المثقف بمدينة الجنينة حيث تناول (سوميت) في السهرة حديث العارف باصول وثقافات مجتمع غرب دارفور من الكرم والبشاشة والعفو هذا داخل الصالون اما الشارع فمرجل يغلي،كما تحدث ابو العلم والمعرفة في تلك السهرة البروفيسور علي احمد مدير جامعة الجنينة عن اهداف مركز دراسات السلام والسلم المجتمعي وتفعيل الاعراف والتقالية الايجابية في تمازج المجتمع،اما المثقف الاخر ابراهيم اسماعيل ابراهيم فقد تناول في تلك السهرة التي بثتها الاذاعة السودانية اهمية التعايش السلمي وتقوية اللحمة الوطنية عبر التصالحات والمصالحات القبلية والعفو والصفح،خطاب ينبيك بوعي هذه الطبقة اما على واقع الحال فالوضع مخيف ومرعب تسيل فيه دماء ابرياء ونزوح وتشرد ولجوء احيانا،فلا بد من اعادة النظر من قبل النخب الواعية والمثقفة لايقاف مثل هذا العبث القبلي الذي يريق الدماء ويفرز خطاب كراهية متوارث جيل عن جيل.
فالدولة،الحكومة والمجتمع،مسؤلة مسؤولية تامة عن ما يحدث من اقتتال قبلي هنا وهناك،فلا بد من تضييق دائرة الحرب القبلية ونشر الوعي الثقافي والديني عن حرمة الدماء ،فكل المسلم على المسلم حرام ،دمه وماله،واهمية تعظيم المصالحات ودفع استحقاقاتها تشجيعا للعفو ،كما ينبغي ضرورة توظيف الاعلام الرسمي والخاص والشعبي لبث ونشر الوعي لتحقيق السلم المجتمعي والسلام والاستقرار والبعد عن هذا النهج الجاهلي الذي تتمترس حوله هذه الصفات النتنة والانتصار لذاتها ظالمة او مظلومة،فالعودة للقبلية تعني العودة للجاهلية المطلقة.فحال البلاد اليوم مغلوب على امره،او كما يقولون(الحال يغني عن السؤال) ،فلا داعي لحروب عبثية تزيد المعاناة للمجتمع،فيجب استدعاء مفاهيم وطنية تتصدى لمثل هذه الحروب القبلية والتي لا طائل من ورائها ،كما يجب ان ينأ السياسيون بعيدا عن اللعب بهذه الكروت المحروقة ،فلا ينبغي ان تدخل القبيلة اي مضمار غير المضمار الوطني،باي حال من الاحوال،فاليوم ما احوجنا الى ثورة ثقافية شاملة، لتحرير المجتمع من براثن القبلية الى رحاب الوطنية والقومية النبيلة،وبذل جهود صادقة للصلح والصفح واحياء الدعوة مجددا لازكاء روح الوطنية بين القبائل وتأسيس منابر تصالحية تجمع القبائل على قلب رجل واحد،فتتوحيد القبائل وتوحيد كلمتها وارادتها قد حررت به الثورة المهدية البلاد والعباد من قبضة المحتل وحافظت على نسيج المجتمع السوداني والامة السودانية،ولكن عندما عادت هذه النعرات القبلية والجهوية والمناطقية مرة اخرى عاد المحتل مرة ثانية بعد معركة كرري ذات التخاذل والتخابر!!ليخرج المحتل تارة في العام ١٩٥٦م لتعود النزاعات والصراعات مجددا بين المجتمعات السودانية اشكالا والوانا،نخبا وقبائل.
فاليوم اصبحت الحاجة ماسة، اكثر من اي وقت او عهد مضى ،لتطبيق العقد الاجتماعي الذي اقترحه الامام الراحل السيد الصادق المهدي ،حكيم الامة السودانية،بين مكونات المجتمع السوداني لتأكير علاقة اجتماعية مقننة ومشفوعة بحقوق اطراف البلاد في الحرية والعدالة التنمية والخدمات والثوابت الاجتماعية بعيدا عن المراوقة والتسويف،هذا فضلا عن توظيف دور الادارات الاهلية ذات الكلمة المسموعة و(الكرباج) المرفوعةللتعامل مع هذه الحروب القبلية لاخماد الشرر وانهاء بؤر النزاع ،اما اذا تركت هذه القبائل لترتكز على الماضي الاليم ونبش قبور موتاها فلن تتوقف هذه الحروب ،فنبش الماضي يشعل فتيل الحاضر ويؤجج الصراع في المستقبل وبالطبع يؤدي الى هلاك النسل والزرع والضرع وهو ما يدمر كل الاقتصاد والحياة،فلا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية او بشرية او انتاج في ظل انتشار حرب وسلاح وقتل،ولا يمكن الحديث عن انتاج في دارفور وجنوب كردفان او بورتسودان ،ميناء السودان،بمعزل عن السلم المجتمعيفالسلام يحتاج الى امن،والامن يحتاج الى وقف الحرب ،وتبقى المعادلة القديييييمة المتجددة دوما وحاضرة،(لا تنمية بلا امن ولا امن بلا تنمية )،فمن الافضل وضع حلول جذرية لهذه الحروب القبلية التي فاقت حرب (داعس والغبراء) كما ونوعا من حيث تطور الاسلحة والتكتيك ،فالعدالة والمصالحة والصفح ابرز مفاتيح الحل،فمقولة (موت ولد ولا خراب بلد) يجب ان تسود وتصير مرجع وسند للقبائل المتحاربة.