تشرفت اليوم بكتابة هذا المقال في صفحات الديمقراطي وآمل أن يجد حظه من النقاش الذي يلقي الضوء على بعض عقبات الانتقال وتعقيداته
قراءة في طبيعة الانتقال
خالد عمر يوسف
ما أن خرجت قيادة القوات المسلحة لتعلن ازاحتها البشير من سدة السلطة ورفع الشارع شعار تسقط تاني في وجه الجنرال ابن عوف، ليجبره على التنحي مفسحاً الطريق للمجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان حتى انفتح شعار “تسقط بس” الذي وحد ملايين السودانيين/ات على عدد من الأسئلة المفتاحية حول مسار الانتقال. هل سنفاوض المجلس العسكري أم نطالبه بتسليم السلطة دون قيد أو شرط؟ هل هذا المجلس يمثل امتداداً للنظام البائد أم هو انحياز لثورة ديسمبر المجيدة؟ كيف نتعامل مع تعدد القوى المسلحة التي خلقها نظام الإنقاذ لحمايته مسترشداً بتجارب التاريخ السوداني؟ ما هي علاقة التغيير الذي حدث في السودان بصراعات المحاور الإقليمية والدولية التي تحيط بنا؟ كيف يمكن المزاوجة بين مطالب الشارع المدني المتعجل لتسليم السلطة لقوى الثورة وتركيبة قوى الكفاح المسلح التي تنظر لمجمل المشهد بزاويا غير التي تري بها القوى الحديثة المدينية في الشارع؟
هذه الأسئلة وغيرها تتناسل من جذر رئيسي هو سؤال نموذج الانتقال الذي اتبعته ثورة ديسمبر المجيدة، والتي طرحت خطاباً وأدوات مقاومة وتصورات تشكل نسقاً سياسياً من الواجب تفحصه بدقة لا لفهم ما حدث في الماضي فحسب، بل لتفهم ما نمر به الآن، وما سنواجهه في مستقبل سنوات الانتقال الثلاث التي بكل ما فيها من تحديات تنتظر منا عبورها بالفكر والعمل الدؤوب لتنفيذ مهام ثورة ديسمبر المجيدة. خطورة اغفال فهم طبيعة الانتقال الذي نمر به الآن يتمثل في بروز خطابات تلتحف ثوب الثورية هاتفة بأنها “لم تسقط بعد” وتقفز مباشرة من هذا التحليل التبسيطي لأنه يجب أن “تسقط تالت”!! منصة النقاء الثوري التي يعتليها هذا الخطاب تحجب الرؤية عن حقيقة أن ما يراد اسقاطه “تالت” هو المرحلة الانتقالية التي لن يكون بديلها مرحلة انتقالية أخرى بعد افقاد القوى الديمقراطية مشروعيتها، فالبديل هو الإنقلاب، ولسخرية القدر فإن هذا السيناريو ليس جديداً على بلادنا أو منطقتنا فصحائف التاريخ ممتلئة بقصص ثوريين انقياء عبدوا الطريق نحو انقلابات قادتهم للمقاصل، لا لشيء سوى قصور فهم تعقيدات الانتقال وتفضيلهم الخيارات التبسيطية، والتبسيط هو أشد أعداء هذا الانتقال ضراوة.
يميز فلاديمير لينين بين نوعين من أنواع التغيير الثوري، أولاهما ما أسماه الثورة الشاملة والتي تستطيع “تحطيم” مؤسسات السلطة القائمة وعلى رأسها أداة احتكار العنف الشرعي فيها “القوات المسلحة”، في حين سمى ثاني الأنواع بالثورة الجزئية والتي تطيح بأقسام يتفاوت حجمها من النظام القديم وتحدث تصدعاً في بناءه بما يتيح إعادة تنظيم جديد لمؤسسات الدولة. الثورات الشاملة التي تنجح في تحطيم البنية القديمة كلية تتطلب درجة من امتلاك أدوات العنف الثوري الذي يسمح بهزيمة النظام القديم كلية وبناء نظام جديد على أنقاضه فوراً، وبغض النظر عن طبيعة الأنظمة التي تنتج من هذا النمط من التغيير وما اذا كان الطرف المنتصر بالعنف مستعداً لتداول السلطة سلمياً، فإنه من الواضح أن نموذج ثورة ديسمبر المجيدة لا يمكن أن يصنف ضمن نطاق الثورات “الشاملة” التي تحطم النظام القديم ومؤسساته بالقوة في فترة وجيزة، فسلمية الثورة واعتمادها على وسائل المقاومة اللا عنيفة يضعها ضمن نطاق الثورات التدريجية التي تطيح بقسم غالب من النظام القديم وتخلق ديناميكيات جديدة تتفاعل فيها القوى المختلفة لتؤثر على مسار الانتقال وهو الأمر الذي يفتح سيناريوهات عديدة منها ما هو مفضل مثل التحول الديمقراطي الكامل ومنها ما هو غير مرغوب فيه مثل الإنقلاب أو الإنهيار. هذا التصنيف لا يفقد هذا الانتقال “ثوريته” ولا يجعل منه “غير جذري”، فأجندة ثورة ديسمبر أجندة جذرية، والجذرية هي أن تكون واقعياً، وكما عرفها كارل ماركس هي أن تكون مدركاً لطبيعة المشكلة وجذورها “To be radical means to go to the root of things”
لم تتخذ ثورة ديسمبر طريق الانتقال السلمي الديمقراطي التدريجي نتيجة لاختطاف قوى الهبوط الناعم لها كما يروق لبعض هواة التحليلات المتعجلة أن يرددوا، بل إن هذا الطريق ذو صلة بجوهر هذه الثورة كثورة سلمية تعى بأن مرحلة الانتقال ستحمل بعض سمات النظام القديم وأن هزيمة الماضي الكلية والقطيعة معه هو عملية مستمرة وضعت الوثيقة الدستورية لها إطاراً قانونياً وسياسياً يقودها في طريق تحقيق التحول الديمقراطي وتفكيك بنية الشمولية. ليس هذا فحسب بل أن كل هذه الخطوات اتخذت بالتوافق في كل مرحلة من المراحل لوعي الجميع بأن هذا هو طريق الانتقال الذي اخترناه. حدد ثوار ديسمبر صيغتهم للانتقال بتوجه مواكب السادس من ابريل نحو القيادة العامة للقوات المسلحة حاملة مذكرة صاغتها قوى الحرية والتغيير بإجماع عضويتها، تدعو الجيش للانحياز للشعب بعد تحليل ضافي يوضح أن قوى الثورة المدنية تتشارك ذات المصالح والرؤى مع ضباط وضباط صف القوات المسلحة، حيث جاء في المذكرة النص التالي” إن إنقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ قد شوه صورة القوات المسلحة واستهدف أبناءها بالفصل والتشريد وتجاوز مهنيتها لمصلحة تسييسها وخلق أجسام ومليشيات موازية لها وزج بها في الحروب الداخلية واستعدى عليها قوى إجتماعية كبيرة كانت تشكل وجوداً مهماً في داخل القوات المسلحة وصارت مهمة القوات المسلحة هي حماية رأس النظام واتباعه عوضاً عن حماية الوطن وشعبه وأرضه وانتشر الفساد والمحسوبية والقبلية داخل القوات المسلحة بديلاً للمهنية والإحتراف والثورة الحالية فرصة عظيمة لإعادة بناء وهيكلة القوات المسلحة ولذا يهتم شعبنا بتقديم هذه المذكرة لكم للإنحياز لمطالبه كما فعل زملائكم الوطنيون منذ ثورة ١٩٢٤.” كما حملت خاتمة المذكرة مطالب واضحة هي “إننا على يقين وثقة بأن الشعب سينتصر، فذلك ما جادت به سِيَر التاريخ ولكن قليل من الطغاة من يعتبر، كما إننا نعقد الأمل الكبير بأن تنتصروا لنداء الواجب والضمير في الانحياز للشعب وثورته في استعادة الحكم الديمقراطي المدني وتحقيق السلام العادل والتنمية المتوازنة.”
وفقاً لذلك تقدمت قوى الحرية والتغيير بمشروع إعلان دستوري بدأت في صياغة مسودته الختامية في فبراير 2019 قبل شهرين من سقوط النظام حدد ذات التصور الذي حملته الوثيقة الدستورية بالتـأسيس لنظام برلماني يحكم فيه المدنيين ويشارك العسكريين في إدارة البلاد عبر وجودهم في مجلس السيادة، وهو ما توافق عليه الجميع في أغسطس 2019 ونشأت مؤسسات السلطة الانتقالية بموجبه لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة انتقال من وضع شمولي تهدمت جدرانه إلى وضع ديمقراطي تحت البناء والتشييد.
من المهم أن نتفحص تعبير “انتقال” بوضوح، فالانتقال في اللغة يعني التحول من وضع إلى آخر بما يمهد لمرحلة مقبلة. بذا فإن الانتقال هو عملية مستمرة، طريق يقود إلى مكان نأمل ونعمل للوصول إليه. اذا كنا اليوم في الوضع “أ” ووضعنا الوصول إلى الوضع “ج”، عليه فإننا سنمر بمحطات عديدة في “ب” و “ت” و “ث” ليست هي بنقطة البداية التي انطلقنا منها وليست سدرة منتهانا التي نقصد الوصول إليها. عليه فإن تصوير بداية المرحلة الانتقالية مثلاً بتشكيل الحكومة المدنية كنصر حاسم أسقط كل النظام القديم وأنشأ نظاماً جديداً على أنقاضه هو تصوير خاطيء وتبسيطي وسيقود باستمرار لخلاصات خاطئة حول ما هو كائن الآن، إن مثل من يطرحون أجوبة تبسيطية على أسئلة الانتقال المركبة كمثل الطالب الذي يستبدل سؤال الامتحان الصعب بسؤال بسيط يناسب إجابته السهلة، قد تكون إجابته صحيحة ولكنها بكل تأكيد لن تساعده على عبور الامتحان.
إن المرحلة الانتقالية التي نمر بها هي الأعقد في تاريخ البلاد، فهي نتاج تحول في توازن القوى لصالح قوى التغيير المدني الديمقراطي على حساب قوى النظام القديم والقوى التي تمني النفس بانقلاب جديد، هذه القوى تتفاعل بشكل يومي وتتصارع من أجل تشكيل الأوضاع الحالية كل وفق أجندته المطروحة. هذا التفاعل الداخلي لا يجري في الفراغ بل أنه محاط بعوامل خارجية تتمثل في محيط إقليمي ودولي يسعى لاستغلال حالة السيولة الحالية وتوجيهها في اتجاه لا يتطابق بالضرورة مع مصالح السودانيين/ات، هذا الانتقال الذي نمر به انتقال مركب من الشمولية للديمقراطية ومن الحرب للسلام ومن الفقر للتنمية والرخاء، وهو ما لن يتم بكبسة زر بل بجولات من العمل المستمر والمعارك اليومية للبناء والتحول، وهو ما يتطلب الحفاظ على توازن القوى لصالح قوى التغيير الديمقراطي. مصدر قوة هذا المعسكر هو الشارع ووحدته وتماسكه وتنظيمه، وبالتالي فإن أصحاب أطروحة تفتيت هذه الوحدة بدعوى البحث عن حلف النقاء الثوري والتغيير الجذري إنما يحدثون تحولاً في توازن القوى لا لصالح التحول الديمقراطي بل على العكس نحو الإنقلاب، فهم يوجهون سهامهم بكثافة إلى صدور رفاقهم أولاً سعياً لاحتكار المشروعية، وبذا نرى اليوم من يعملون ليل نهار لسحب المشروعية من الحرية والتغيير وتجمع المهنيين ورئيس الوزراء بدعوى أنهم يسعون لصيغة أكثر ثورية وفي الحقيقة فإنهم بسوء تدبيرهم إنما يبطلون أهم أسلحة الانتصار في معارك التحول ألا وهي الوحدة حول رؤية متوافق عليها. إن الواجب المقدم للحفاظ على توازن قوى يقود للتحول الديمقراطي هو توسيع القاعدة السياسية والاجتماعية لا تضييقها، وتفهم أن هذا التوسيع سيقود لتباين في الآراء لا يجدي محاولات صهرها في نظرية واحدة مقدسة لا يجوز تفحص منطلقاتها.
بعد عام كامل من توقيع الوثيقة الدستورية حينما يقول أحدهم أنها لم تسقط بعد فإنه يذكر نصف الحقيقة وأنصاف الحقائق أسوأ أنواع الأكاذيب!! الحقيقة الكاملة أنها لم تسقط كلية لأنها بداهة من بداهات الانتقال، ولكن سقطت الدكتاتورية والقمع وصار شعبنا حراً لا يخشى تسلط قلة على أعناقه بحكم الحديد والنار، سقطت أصوات الحرب وسكتت البنادق وارتفعت رايات السلام بتوقيع اتفاق جوبا الأخير وبالاختراق الذي احدثه رئيس الوزراء في اديس مع الحركة الشعبية بقيادة الحلو، سقطت القوانين القمعية وابتدرت حكومة الثورة جملة إصلاحات قانونية تحفظ للإنسان السوداني كرامته وتزيل كافة أشكال التمييز ضده، سقطت بنية التمكين بعد أن أعملت الثورة مبضعها في جسد النظام القديم فحلت المؤتمر الوطني ونقاباته الزائفة ومنظماته التي يعمل من خلالها ومؤسساته الاقتصادية التي مولت الاستبداد ردحاً من الزمان، سقطت عزلة السودان الدولية وعادت بلادنا للأسرة الدولية بعد طول غياب كدولة ذات سيادة تقيم علاقاتها على أساس مصالح مشتركة والتزام صميم بأمن وسلم جيرانها لا مصدراً لمشاريع إرهابية تزعزع الاستقرار والسلام العالمي وتفرط في السيادة الوطنية، سقط إعلام التطبيل وتزييف الحقائق وكبت الرأي الآخر واسترد الشعب السوداني أجهزة إعلامه المغتصبة لتصير منبراً حراً لعكس تنوعه وتعدده الفريد وضميراً يقظاً ينشر التنوير ويعكس هموم الناس وقضاياهم. لم يسقط الفقر والتدهور الاقتصادي بعد وزادت حدته بفعل القصور الحكومي وضعف جهاز الدولة وحرب النظام المباد لتركيع الفترة الانتقالية وعوامل الطبيعة من وباء الكورونا والفيضان، وتظل جبهة عبور الأزمة الاقتصادية أحد أهم جبهات الانتقال التي تهدد استمراره ما لم نقوى على العبور منها. هذا الأمر لا يعني بأن آداء الحكومة وقوى الحرية والتغيير جيد بل على العكس فإن إتمام نواقص الانتقال رهين بتطوير آدائهما وسد ثغراته.
قديماً قال الفيلسوف الفرنسي فولتير “Perfect is the enemy of good” وهي مقولة تعكس أن رفض ما حققناه بدعوى أنه غير كامل يبدد ما تحقق ويقود لقطع طريق الوصول للغايات المنشودة. الانتقال الديمقراطي عملية مستمرة نكتسب كل يوم فيها أراضي جديدة، ننتصر في معارك ونخسر أخرى، فنحن على الأرض ونحتكم لقوانينها ولسنا في جنة قطوفها دانية!! الطريق رهين بخلق التراكم اللازم لترجيح توازن القوى باستمرار لصالح التحول الديمقراطي وهو فعل يتطلب توحيد وتوسيع وتنظيم قاعدة قوى التغيير لا تمزيقها وتفتيتها تحت أي مبرر كان. نصرنا او هزيمتنا هي خيارات نكتسبها بعمل يدنا وليست قدراً قسرياً لا فكاك منه، وعمل اليد رهين بفهم تعقيدات الانتقال والصبر على تجاوزها خطوة خطوة.