المشاوير الاجتماعية ترهقني في مدينة أصبح الازدحام وضياع الوقت السمتين المميزتين لها … قررت انتظار قريبتي التي تقدم لي خدمة المرشد فأنا لا اعرف الطرق والاتجاهات في الخرطوم كما ينبغي.. فهي التي تتولى أمري: انعطفي يمين.. الى اليسار دوري … واصلي السير في هذا الشارع… خذي المخرج الأول أمامك …. هذا هو ديدني..
تواعدنا أن نلتقي عند محطة الصقعي في حلة كوكو لتصحبني في زيارة أسرية… ركنت السيارة جانبا في انتظارها وانا اعيد حساباتي مع نفسي بعيدا عن المشهد الكاريكاتوري الذي رسمه صاحب عربة الكارو المتدحرجة أمامي.. بالنظر إلى هذا المكان يصبح جليا تورم الخرطوم وانتفاخها الذي أصبح خارج حدود الزمان والمكان.. عندما يختصر السودان في العاصمة وينزح سكان الريف المنتجون إلى الخرطوم فمن الطبيعي أن يصيب المدينة ورم سرطاني خارج المدار الحضاري.. كل يوم تتوالد الأحياء السكنية وتتكاثر وتنتشر مثل الخلايا السرطانية تماما... كرتون كسلا و ..و… اسماء تزيد قاطنيها عوزا على عوز و تمنحهم تأشيرة دخول إلى عالم البؤس و الفقر المدقع….
الناس يأتون من كل فج عميق بحثا عن الاستقرار وفرص العمل فتولد البطالة والعطالة ويصبح البحث عن الرزق مهمة شاقة للنازحين الذين لهم حق العمل والإنتاج، و مع ذلك فهم يعيشون في واقع طبقي مأزوم … على مدى ثلاثة عقود تشوهت الخرطوم لا حدائق لا سينمات لا أشجار ظليلة على جانب الطرقات بل تسول تسول في كل إشارات المرور… فئات عمرية مختلفة مسحوقة تخبرك ملامحها عن عزيز قوم ذل . أنا اتحدث هنا عن كائنات حية افرزها الوضع الاقتصادي والسياسي المشوه تاركا إياها تتسول لقمة العيش من أجل مجرد البقاء و سد الأود.. السياسيون لا يعنيهم حال هؤلاء يمرون قربهم وهم في سياراتهم الفاخرة دون ان يرتد لهم طرف او تتحرك فيهم شعرة؟هذا لا يهم المهم أن يجمعوا ويطرحوا وأن يغرسوا أقدامهم في منظومة وضع سياسي فاشل يعشعش في مستنقعات الفساد …المهم أيضا أن يتقنون فن نهب الوطن و أن يظلون خالدين في مركز القيادة … جاءت ثورة و لم تنضج ثمارها بعد. ضحى الشهداء بأرواحهم و لم تجف أدمع بواكيهم بعد، ولم تندمل جروح الثوار بعد، كما لم يُشفى جرح الفقر بعد .. وبعد كل هذه التضحيات الجسام يبدو ان الزمان لم يراوح مكانه و الرقم لسه واحد..اللعنة على الزمن الرديء ،و اللعنة على السرطان السياسي الذي أصاب الخرطوم .
جدية عثمان
الخرطوم ٢٠٢٠